ربما يمثل 24 فبراير من هذا العام يوماً فاصلاً في التفاعلات الدولية، في ظل العملية الروسية بأوكرانيا، وما أحدثته من تبعات مؤثرة بشكل أساسي على الاقتصاد العالمي، ما يمهد لتغيرات في تركيبة التفاعلات القائمة عبر إعادة قراءة منطقية لطبيعة التوازنات والمصالح المتشابكة، لا سيما بالنسبة لدول الاتحاد الأوروبي التي تقف «في المخنق» بين مصالحها الاقتصادية مع روسيا وانزعاجها أمنياً من العملية الروسية.
تظهر قارة أفريقيا في الصورة، وهي التي عادة ما تعاني دولها من آثار وخيمة للحرائق الدولية، لكن هذه المرة ربما قد يمنحها القدر فرصة - إلى جانب كثير من التحديات والصعاب التي تعاني منها ضمن آثار الوضع الراهن - لإعادة صياغة العلاقات مع دول القارة العجوز، بالنظر إلى الفرص التي يمكن استثمارها لاعتبار أفريقيا ضمن بدائل أوروبا للحصول على الغاز، في ظل ما تتمتع به بعض دول القارة السمراء من احتياطات وثروات غير مستغلة.
فهل تسهم العملية العسكرية الروسية في أوكرانيا في صياغة فصل جديد للعلاقات بين الاتحاد الأوروبي والدول الأفريقية المصدرة للغاز؟ وعلى أي مدى يمكن أن يكون ذلك التحول (على المدى المتوسط أو الطويل؟) وما هي أبرز المعوقات التي تواجه أفريقيا في سبيل استثمار تلك الفرصة؟
تقدر احتياطات الغاز المؤكدة في أفريقيا بحوالي 148.6 تريليون م3 (أي أكثر من 7% من الاحتياطات العالمية من الغاز). تتصدر نيجيريا قائمة الدولة المنتجة للنفط في أفريقيا، تليها على التوالي كل من أنغولا والجزائر ومصر وليبيا والكونغو. وتستحوذ القارة على 9% من الصادرات العالمية للنفط.
صيغة جديدة للعلاقات
يقول خبير العلاقات الدولية طارق البرديسي لـ«البيان»، إن هناك تصوراً لواقع جديد لهذه العلاقة بين أوروبا وأفريقيا، تسرع ملامح ذلك الواقع الحرب في أوكرانيا وتبعاتها الشديدة على الدول الأوروبية الباحثة عن بدائل للغاز الروسي، بينما تزخر أفريقيا باحتياطات الغاز والمعادن والكنوز والثروات الطبيعية غير المستغلة في تلك القارة البكر.
ويوضح أن دولاً مثل الجزائر (التي أبدت استعدادها منذ بدء الأزمة لزيادة صادرات الغاز الطبيعي والمسال إلى أوروبا، والتي تحل في المرتبة الرابعة ضمن أكبر مصدري الغاز لأوروبا) ونيجيريا (التي بلغت صادراتها من الغاز الطبيعي المسال للاتحاد الأوروبي في 2019 حوالي 12 مليار متر مكعب) ودول عديدة في القارة تتمتع بإمكانات تستطيع من خلالها تعويض أوروبا عما تحتاجه.
لكن «الأمر يتطلب وقتاً، وليس بين ليلة وضحاها، لا سيما مع عدم جاهزية البنية التحتية، فأوروبا تحتاج إمكانات مختلفة لاستقبال الغاز المسال ليست متوفرة عند الطرفين، وأفريقيا لا تتوافر فيها البنية التحتية المناسبة».
هناك بالفعل أربع خطوط لنقل الغاز الأفريقي إلى أوروبا (تقع جميعها في إقليم شمال أفريقيا). وتشكل البنية التحتية التحدي الأكبر في جنوب الصحراء من أجل الربط مع الخطوط القائمة. كما تعيق التوترات السياسية والأزمات دولاً أفريقية عن توسعة واستقرار إمدادات الغاز لأوروبا، مثل ليبيا (التي تمتلك 1.4 مليار متر3 من احتياطات الغاز) على سبيل المثال، بجانب مشكلة البنى التحتية.
ويعتقد خبير العلاقات الدولية بأن الواقع الجديد الذي قد ترسمه الأزمة في أوكرانيا فيما يتصل بالعلاقات الأوروبية الأفريقية يتطلب تعزيز الاستثمارات في قطاعات مختلفة بالقارة حتى تكون أفريقيا بديلاً لروسيا (..) الأمر يتطلب وقتاً وإمكانات ليست بالسهولة المتصورة، لكن على المدى البعيد أو ربما حتى المتوسط من الممكن أن تكون القارة من البدائل الجيدة بالنسبة لأوروبا بما تحويه من ثروات مهمة غير مستغلة.
وتنضم مصر والجزائر إلى قائمة الدول المتمتعة بوضع جيد لتأمين احتياجات الطاقة، وهو ما يؤكده كارلوس توريس دياز، رئيس أبحاث سوق الغاز والطاقة في شركة «ريستاد إينرجي»، والذي ذكر في تصريحات له نقلها موقع موقع «إنيرجي كابيتال آند باور» الاقتصادي الأفريقي الناطق بالإنجليزية، أن الغاز الأفريقي مؤهل لضمان أمن الطاقة بالنسبة للدول الأوروبية الساعية إلى إيقاف الاعتماد على الغاز الروسي.
مراجعة العلاقات
يؤكد الباحث الإيطالي لوتشيانو بوليكيني (من مكتب أفريقيا في مؤسسة ميد أور الإيطالية) في تصريحات نقلها عنه الأسبوع الماضي موقع «ديكود 39» الإيطالي، أن «أفريقيا يمكنها تعويض النقص في الغاز على خلفية التحرر من التبعية الروسية (..) لكن هذا الأمر يفتح الحاجة إلى مراجعة إطار العلاقات من وجهة نظر استراتيجية وتحسين المسائل اللوجستية والبنية التحتية».
وبعد توقيعها عقداً مع الجزائر، تتجه إيطاليا على سبيل المثال إلى توقيع عقود للغاز في الكونغو وأنغولا، وذلك ضمن خططه الرامية للاستغناء عن روسيا. كما أنه من المتوقع تدفق الغاز النيجري صوب أوروبا - عبر الجزائر - وفقاً لما أعلنه وزير الطاقة النيجري خلال مؤتمر صحافي قبل أسبوعين أعلن خلاله عن بدء مد خط أنابيب الغاز العابر للصحراء نحو الجزائر، بقصد إيصاله إلى أوروبا. وهو الخط الذي يمكنه نقل 30 مليار م3 سنوياً عند اكتماله (بحسب مرصد الطاقة العالمي).
من جهة أخرى، يقول الخبير الاقتصادي أستاذ التمويل والاستثمار الدكتور مصطفى بدرة، لـ«البيان»، من القاهرة، إنه من الصعوبة بمكان أن تشكل دول القارة الأفريقية بديلاً ميسراً للغاز الروسي بالنسبة لدول الاتحاد الأفريقي، لا سيما في ظل عدم توافر البنية التحتية المناسبة لكي تستطيع الإمدادات الأفريقية القادمة من الجزائر ونيجيريا وغيرها في القارة، احتياجات أوروبا والإمدادات التي كانت تحصل عليها من روسيا.
ويشدد على أن البنية التحتية الهائلة التي كان يتم الاعتماد عليها في الحصول على الغاز الروسي وحركة النقل والتسييل والمتوسطات الإنتاجية التي اعتمدت عليها أوروبا والشركات هناك تشكل منظومة كبيرة من الصعب أن يكون هناك بديل سلس عنها، لجهة البنية التحتية والتكلفة المرتفعة للنقل في ظل عدم توافر البنية المناسبة.
ويشير إلى أنه يمكن لدول أفريقية مثل الجزائر ومصر وبعض الدول الأخرى أن تتحمل إمداد أوروبا بجزء من احتياجاتها لكن ذلك لن يشكل بديلاً سهلاً (..) الأمر يتطلب استثمارات بمليارات الدولارات من أجل تهيئة البنية الملائمة لانتقال الغاز.
وهو يتفق في ذلك مع ما ذهبت إليه مديرة مركز الأبحاث (Think Tanks Azure Strategy) ومقره لندن أليس غور، التي قالت في تحليل سابق إن الجزائر على سبيل المثال لا يمكنها أن تشكل بديلاً على المستوى القصير، موضحة أنه على الرغم من إمكانية مشغلي الطاقة الإسباني والجزائري (ناتورجي وسوناطراك) زيادة قدرة ميدغاز (خط أنابيب غاز طبيعي بين الجزائر وإسبانيا. افتتح في 1 مارس 2011) إلا أن الجزائر ليست لديها إمكانية زيادة ضخ الغاز عبر الخط المذكور، بينما هناك طرق بديلة عبر خط أنابيب الغاز المغاربي الأوروبي المار عبر المغرب (وهو ما يصطدم بالتوترات السياسية الراهنة).
بدائل مكلفة
ويشير مدير مركز «كوروم» للدراسات الاستراتيجية في لندن طارق الرفاعي، في تصريحات لـ«البيان» إلى أن مشكلة أوروبا كبيرة فيما يتعلق ببدائل غاز روسيا التي تمثل أسهل طريقة لتوصيل الغاز عبر الأنابيب، بينما البدائل الأخرى ستكون أكثر كلفة. ويشدد على أنه يمكن الحديث عن أن تلعب دول القارة الأفريقية دوراً ضمن بدائل الغاز الروسي بالنسبة لأوروبا، لا سيما الدول العربية مثل الجزائر وليبيا، لكن «من الضروري ألا تعتمد دول الاتحاد الأوروبي على مصدر واحد للحصول على احتياجاتها من الغاز»، لافتاً في الوقت نفسه إلى ارتفاع الاعتماد الأوروبي على الغاز لجهة اعتماد دول الاتحاد على تطبيق السياسات الخضراء.
ويشدد على أن البنية الأساسية في أفريقيا حالياً لا تسمح بأن تكون دولها بديلاً للغاز الروسي بالنسبة لأوروبا، ويتعين في هذا الإطار ضخ استثمارات على المديين المتوسط أو الطويل، وهو ما قد يستغرق خمس سنوات لنتمكن من رؤية أفريقيا كبديل.
إرسال تعليق